"من الطمي إلى الأمن المائي والغذائي: مقاربة تكاملية لمعالجة أزمة المياه في انواكشوط" | أغشوركيت

"من الطمي إلى الأمن المائي والغذائي: مقاربة تكاملية لمعالجة أزمة المياه في انواكشوط"

اثنين, 11/08/2025 - 12:54
محمد / سيد محمد / آماه  مهندس زراعي

أغشوركيت ( آراء ) : في مطلع أغسطس الجاري عاش سكّان نواكشوط أسبوعاً من العطش الكامل ولا زال البعض منهم يعيش تبعاته . السبب المعلن كان «ارتفاع الطمي في نهر السنغال إلى مستويات قياسيّة»، لكنّ العبارة المقتضبة تخفي وراءها سلسلة معقّدة من الظواهر الهيدرولوجيّة والهندسيّة والاقتصاديّة. في هذا المقال نحاول أن نشرح هذه الظاهرة بأسلوب مبسط 

الطمي: من أين يأتي وكيف يتحوّل إلى خصمٍ لمحطات التنقية؟

حين تشتد العواصف الرعديّة على الهضاب الغينيّة وتنهمر أمطارها على منحدراتٍ فقدت قسماً كبيراً من غطائها النباتيّ، تتحرّك جسيمات الطين والسلت بسرعةٍ إلى المجاري المائية. يتضاعف هذا التدفق بفعل التعرية الناتجة من الرعي الجائر في مالي ومن الأعمال الزراعيّة غير المحافِظة على التربة. وفي أقلّ من ثلاثة أيّام يصل هذا المزيج إلى الحدود الموريتانيّة وقد حمل معه تركيزاً يراوح، في قمّة الفيضان، بين ثمانمئة وألف وخمسمئة ملغم من المواد الصلبة لكل لتر. هذه الأرقام تتجاوز كثيراً قدرة الفلاتر الرمليّة ومحطّات التخثير والترويق التقليديّة؛ فالشبّة (Alum) لا تستطيع حجز حجمٍ كهذا من الجسيمات الدقيقة، وما إن تسدّ المسام حتى تضطرّ الشركة المشغّلة إلى إيقاف الضخّ والبدء في غسيلٍ عكسيّ يستهلك وقتاً ومياهاً وكهرباء وموادَّ كيميائيّة باهظة.

ينتج من ذلك فجوةٌ يوميّة بين العرض والطلب 

ما الذي يجعل هذا الطمي، في الوقت عينه، ثروةً مهدورة؟

حين نقيس محتوى الطمي المُجفَّف نجد أنه يحمل بين ثلاثة إلى خمسة أضعاف كمية الفوسفور الموجودة في التربة الساحلية الطبيعيّة، ويُضيف نحو اثنين إلى أربعة في المئة من الكربون العضوي إلى الكتل الرَمليّة الفقيرة. هذا وحده كفيل بأن يرفع السعة الحقلية للماء بنسبةٍ تلامس العشرين في المئة، ويُحسّن بنية التربة فيجعـلها أكثر تماسُكاً وأقلّ ميلاً إلى الانجراف. التجارب الميدانية في بيئات شبه قاحلة مشابهة لسهول ترارزة أثبتت أن جرعةً معتدلة لا تتجاوز خمسة أطنان من «كومبوست الطمي» للهكتار، تُعاد كل ثلاث سنوات، تكفي لزيادة غلّة الذرة والقمح بما يتراوح بين خمسة وعشرين وثلاثين في المئة، من دون أيّ أثرٍ سامّ أو تراكُمٍ للمُعادن الثقيلة متى التزمنا حدود السلامة الدولية.

الحلّ الهندسيّ العاجل: حوض ترسيب شبه آلي قبل نقطة الضخّ

تتلخّص الفكرة في استباق الأزمة؛ أي التقاط الجسيمات حيث يسهل التعامل معها بدل السماح لها بالوصول إلى قلب المحطة. يوضع حوضٌ خرساني بطول عشرين متراً وعرض ستة أمتار وعمقٍ يتجاوز المترين بقليل قبل المضخّات الرئيسة مباشرة. وبمجرد أن يمرّ الماء عبر هذا الخزان يهبط معدّل جريانه إلى أقلّ من ملّيمتر واحد في الثانية، وهي سرعة أدنى من «سرعة السقوط» لمعظم جسيمات الطمي الناعم. يحرّك فوق السطح كاشطٌ بطيء الدوران طبقة الماء، فيمنع تكوّن تيارات راكدة ويقود الرواسب المتراكمة نحو ثقب  أرضي مائل بثماني درجات تقريباً(موضح في الشكل أسفله). من هذه النقطة تتولّى مضخّةٌ لولبيّة مخصّصة للسوائل عالية الكثافة رفع المزيج إلى حوض تجفيفٍ شمسيّ بسيط مُحصَّن بحاجزٍ ترابيّ وتصريفٍ أرضيّ. 
حسب التجارب السابقة في مناخٍ جاف مثل ساحل الأطلسي تُظهر أنّ الرطوبة تنخفض من نحو خمسةٍ وثمانين في المئة إلى ما دون خمسةٍ وثلاثين في غضون أسبوع، بلا حاجة إلى وقودٍ أو تجفيفٍ حراريّ مكلف. والأهم أنّ هذه المنظومة – لحجم المحطة الحالي – تحجز ستين في المئة من الطمي قبل دخوله خطَّ المعالجة، فيقلّ تكرار توقُّف الفلاتر من مرتين أو ثلاث يومياً إلى مرّةٍ أسبوعياً، وتختفي الانقطاعات الطويلة لأن الغسل العكسي يمكن جدولتُه في ساعات انخفاض الطلب.

كيف نحول الكتلة المجفَّفة إلى سماد عضوي آمن؟

بعد الخروج من حوض التجفيف يصبح الطمي مسحوقاً بنّياً كثيفاً بنسبة مادة صلبة تكفي للتداول. تُنقل الشحنات إلى ساحةٍ مُظلَّلة تُجرى فيها عملية مزجٍ محسوبة: جزءٌ من الطمي، جزءٌ مساوٍ من قشّ الأرز أو سعف الذرة، ونصف جزءٍ من روث الدواجن الطازج. يُقلب هذا الخليط مرّة كل أسبوع، ومع ارتفاع الحرارة الطبيعي إلى ما فوق خمسٍ وخمسين درجة مئويّة يختفي خطر بويضات الديدان والجراثيم المرضية. حين تنخفض الحرارة تدريجياً إلى ما دون أربعين درجة بعد نحو خمسين يوماً، يصبح اللون بنياً داكناً وتستقر الرطوبة عند نحو ثلاثين في المئة، وتنبعث رائحة التراب الرطب بدلاً من الأمونيا النفّاذة. اختبار الإنبات القياسي ببذور الجرجير يمنحنا مؤشراً يتجاوز ثمانين في المئة، وهو الشرط الدولي لاعتبار الخليط «سماداً ناضجاً». 
قبل التعبئة في أكياسٍ من خمسين كيلوغراماً نأخذ عينة مخبرية للتأكد من بقاء الرصاص تحت خمسين ملغم في الكيلوغرام والكادميوم(Cd) أقلّ من ملغم واحد. عندئذٍ يصبح المنتج صالحاً للتوزيع في التعاونيات الزراعية ضمن برنامجٍ يستبدل الطمي المجفَّف بقشٍّ وروثٍ يجلبه المزارع، ما يخلق دورةً مغلقة تُعيد المغذّيات إلى التربة من دون عبء مالي كبير.

الآثار الاقتصادية والبيئية المتوقَّعة إذا طُبِّقت الخطة

إذا بدأنا بحوض ترسيب واحد في نواكشوط ثم نقلنا الآليّة نفسها إلى روصو وكرمسين خلال عامين، يمكن أن نوفّر سنوياً أكثر من مئتين وخمسين طناً من مادة الشبّة الكيميائيّة(كبريتات الألمنيوم المائية )، مع خفض استهلاك الطاقة للغسل العكسي بنسبةٍ تربو على الربع. ذلك وحده يعني فاتورة تشغيلية أقل ومعدلاً أقلّ من الأعطال الميكانيكية. على الجانب الزراعي، يكفي الطمي الجاف المتوقع – نحو خمسة آلاف طن في السنة – لتسميد أكثر من ألف هكتار من التربة الرملية؛ وهو ما يقابل مئة طن تقريباً من سماد NPK المستورَد تُوفَّر مع كل ألف طن من الكومبوست المنتج. 
الكربون العضوي الذي يُدفن في تلك الحقول يسحب من الغلاف الجوي ما يُقدَّر بأربعمئة وخمسين إلى خمسمئة طن مكافئ كربون سنوياً، ما يضع موريتانيا على مسار التزاماتها المناخية من بابٍ لم يكن في الحسبان.

خارطة طريق مختصرة حتى عام 2028

بحلول نهاية 2025 ينبغي أن يكون حوض الترسيب الأول مع الحساسات الفورية للطَّمي قد دخل الخدمة، وأن تكون حملة توعية «الكومبوست الذهبي» قد وضعت المزارعين في قلب المشروع.
خلال 2026 تنتقل التقنية إلى ضواحي روصو وكرمسين، مع إنشاء ساحة تجفيف إقليمية بطاقة ثلاثين طناً يومياً.
في 2027 يصدر معيار موريتاني واضح يحدد حدود المعادن الثقيلة وخطوات التحليل وجرعات التطبيق الحقلية.
بحلول 2028 نكون قد خطونا خطوةً أبعد؛ إذ يوقَّع اتفاقٌ إقليمي مع مالي وغينيا لتشجير خمسةٍ وخمسين كيلومتراً من ضفاف المنبع، ما يُخفّض الحمل الطيني عند المصدر بنسبةٍ تقدَّر بعشرة في المئة إضافية.

في الأخير  إنّ حلّ أزمة العطش الموسمي لا يحتاج إلى تقنياتٍ معقّدةٍ أو ميزانياتٍ خيالية، بل إلى رؤيةٍ تكاملية: نبطئ ماءً ملوثاً فنحمي المحطة، نجفّف طميه فنصنع سماداً، نُعيد السماد إلى الأرض فترتوي الجذور ويقل الضغط على خطوط الري. الطمي – الذي بدا خصماً لساعاتٍ طويلة – يتحوّل، متى أحسنا تدبيره، إلى موردٍ متجدّد يعزّز الأمن الغذائي ويخفّف عبء استيراد الأسمدة ويرسّخ التزام البلد ببيئةٍ أكثر استدامة. والأهم أنه يعيد للمواطن حقَّه البديهي في شربة ماءٍ لا تنقطع.
تجدون في الروابط التالية المصادر التي تم الإستعانة بها لكتابة هذا المقال
https://doi.org/10.3390/su15086773 
https://doi.org/10.3390/su15086773 
https://doi.org/10.1007/s12649-020-01074-6 
https://doi.org/10.1007/s10653-021-01100-z 
https://doi.org/10.1007/s10653-021-01100-z 
https://www.e3s-conferences.org/articles/e3sconf/abs/2023/43/e3sconf_ice...

 

 

 

 

محمد / سيد محمد / آماه 
مهندس زراعي